على الرغم ان المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل التي استمرت لمدة (12) يوم كانت قصيرة المدى طويلة الأثر، الا انها زرعت معادلة ردع جديدة في الشرق الأوسط وقلبت قواعد الاشتباك، واعادت تعريف الردع من ردع (نووي، جوي) الى ردع مركب (صاروخي، إقليمي، سياسي ونفسي). التوصل لوقف إطلاق النار لم يكن بسبب احراز النصر من قبل أي طرف ولكن لان الحرب وصلت الى عتبة الخسارة المزدوجة، حيث أصبح كلا الطرفين الإيراني والإسرائيلي يمتلك القدرة على الايذاء دون ان يكون قادر على الحسم.
بعد الضربات الدقيقة الجوية والصاروخية الإسرائيلية والأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو 2025، بات واضحًا أن شكل الحروب في الشرق الأوسط يتغير بصورة متسارعة. هذا الصراع وفر نموذجًا عمليًا لفهم ديناميكيات الصراع واتجاهات الحرب المستقبلية، في حرب بين التقليدية والهجينة تفصلها الجغرافيا ظهر فيها بعد استخدام الصواريخ البالستية والفرط صوتية والمسيرات كأسلحة ردع مؤثرة. كذلك برز دور القدرة الجوية والتفوق الجوي والعمليات السيبرانية والحرب الالكترونية في تنفيذ العمليات الاحترافية وتحقيق الردع. كشفت الحرب عن مواطن الضعف والقوة لدى الطرفين. من هنا، يبرز سؤال ملح: ما الذي ينبغي للجيوش العربية أن تركز عليه في تطوير معداتها وقدراتها الدفاعية والهجومية، خاصة في مجال اعتراض الصواريخ وتحصين الجبهة الداخلية؟ أظهرت الهجمات الإيرانية بالصواريخ الفرط صوتية والبالستية والصواريخ متعددة الرؤوس والطائرات المسيّرة قدرةً على اختراق بعض الدفاعات الجوية الإسرائيلية رغم تطورها، مما يسلط الضوء على أهمية وجود أنظمة دفاع جوي متعددة المستويات. إسرائيل تعتمد على منظومات تشمل: القبة الحديدية لاعتراض القذائف قصيرة المدى، مقلاع داوود لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى، آرو 2 و 3 للتصدي للصواريخ الباليستية بعيدة المدى، بالإضافة لمنظومات باراك والباتريوت وكذلك الثاد الامريكية.
أظهرت الغارات الأمريكية والإسرائيلية على إيران، خصوصًا عملية “مطرقة الليل” التي استخدمت فيها قاذفات B-2 الشبحية وصواريخ خارقة للتحصينات، أهمية القدرة على تنفيذ ضربات دقيقة بعيدة المدى دون الدخول في حرب شاملة أو استنزاف ميداني، هذا يتطلب تطوير المقاتلات الحالية في الجيوش العربية والحصول على مقاتلات من الجيل الخامس من مصادر متعددة، وتطوير الدفاعات الجوية بعناصرها، منظومات القيادة والسيطرة والاتصالات والحرب الالكترونية والعمليات
السيبرانية.
تحتاج الجيوش العربية إلى تطوير أو اقتناء قدرات تشمل منظومات واسلحة الردع، صواريخ كروز، باليستية او فرط صوتية دقيقة تُطلق من البر أو البحر أو الجو، طائرات مقاتلة قادرة على التخفي والعمل في بيئات ذات دفاعات قوية.
غواصات بحرية حديثة قادرة على حمل الصواريخ، القدرة على جمع معلومات استخباراتية عالية الدقة لتحديد الأهداف مسبقًا. كذلك تبرز الحاجة الى نظم قيادة وتحكم قادرة على التنسيق بين وحدات الضرب السريع والاستخبارات التكتيكية. ان وجود مثل هذه القدرات يمنح الدول العربية مرونة استراتيجية وردعًا ذكيًا لمجابهة التحديات التقليدية وتهديدات الميليشيات أو الخصوم غير المتناظرين.
ان تحصين المنشآت الحيوية وحماية الجبهة الداخلية من الأهمية حيث ان الصراع بين إيران وإسرائيل لم يقتصر على الجبهات العسكرية بل امتد ليشمل البني التحتية المدنية، كالمطارات، خزانات الوقود، محطات الطاقة، والمراكز التكنولوجية والعلمية، الأسواق المالية. هذا يفرض ضرورة تحصين المنشآت الحيوية في الدول العربية ضد أي هجمات بالعمليات العسكرية التقليدية، البرية، الجوية، البحرية، الصاروخية، بالطائرات المسيّرة، او عمليات الحرب الالكترونية، العمليات السيبرانية وعمليات التخريب والجواسيس والعملاء.
ينبغي أن تشمل هذه التحصينات ملاجئ ومنشآت تحت الأرض للقيادة والسيطرة ومنشآت الطاقة، أنظمة إنذار مبكر مدمجة في منظومات الدفاع المدني، خطط طوارئ لإخلاء أو حماية المنشآت الحيوية، تدريبات دورية للمدنيين والعسكريين على التعامل مع الهجمات الجوية، حماية الجبهة الداخلية لم تعد شأناً مدنيًا فقط، بل عنصرًا رئيسيًا في العقيدة الدفاعية الشاملة.
ينبغي على الجيوش العربية أن تدرس بعمق ما جرى في الحرب لبيان الدروس المستفادة ونقاط القوة والضعف لكل من الطرفين والثغرات في منظومات الدفاع وتتبنى هي الأخرى مفهوم الدفاع المتعدد الطبقات عبر دمج عدة منظومات تعمل بتكامل تقني وتشغيلي.
تبرز الحاجة الان لشراء أو تطوير أنظمة تغطي مختلف أنواع التهديدات (قصيرة، متوسطة، وبعيدة المدى)، الاستثمار في شبكات رادارات مطورة وحديثة قادرة على كشف الأهداف الصغيرة والمرتفعة والسريعة، ربط كل الطبقات في نظام قيادة وتحكم موحد (C4I) يسمح بالتنسيق والتكامل والتوائم السريع والدقيق بين الوحدات، من اجل رفع قدرات الاعتراض وكفاءة الردع وتقليل كلفة التعامل مع الهجمات المشبعة.
أضاف التطور السريع في صناعة المسيرات (الدرونز) وفعاليتها في الصراعات في معركة الأسلحة المشتركة الحديثة كأحد أبرز مكونات الحروب ومفاهيم وفن استخدامها تحديات كبيرة بشكل غير مسبوق، سواء كوسيلة استطلاع، تجسس، مراقبة، أو لتنفيذ ضربات دقيقة وجراحية منخفضة التكلفة مع ان تكون الخصائص لفنية والتقنية للطائرات المسيرة قابلة للموائمة مع العمليات السيبرانية والحرب الالكترونية والذكاء الاصطناعي. إيران أثبتت فعالية هذه الأسلحة في ضرب أهداف بعيدة باستخدام طائرات مسيرة بمدى يتجاوز 1500 كلم. كما استخدم الحوثيون مسيرات إيرانية لضرب أهداف في السعودية والإمارات واسرائيل.
من أجل التصدي لهذا النوع من التهديد، تحتاج الجيوش العربية إلى: أنظمة كشف مبكر متخصصة ضد المسيّرات الصغيرة (رادارات مزدوجة، أجهزة كشف الترددات اللاسلكية، كاميرات التتبع E/0، مجسات بصرية ومستشعرات الكترونية، أجهزة صوتية)، نشر أنظمة اعتراض منخفضة التكلفة مثل المدافع الموجهة، الليزر، أو صواريخ قصيرة المدى معدة خصيصا للمسيّرات، تطوير قدرات الحرب الإلكترونية لتعطيل توجيه المسيّرات عبر التشويش على إشارات GPS والاتصالات اللاسلكية. يعتبر الاستثمار في المسيّرات الهجومية والمسيرات الانتحارية ضرورة لتحقيق معادلة الردع، خاصة تلك المجهزة بتقنية التخفي والذكاء الاصطناعي.
شكلت الهجمات السيبرانية بين إيران وإسرائيل بعدًا غير تقليدي في هذا الصراع، خصوصا ما دار منها تحت ما يسمى حرب الظل، حيث تم استهداف بنى تحتية حساسة ومواقع عسكرية ومنظومات راداريه. لم يعد كافيًا تطوير الأسلحة التقليدية دون مواكبة التحول الرقمي في ساحات المعارك. ان الجيوش العربية مدعوة إلى إنشاء وحدات حرب إلكترونية وسيبرانية محترفة، تطوير قدرات دفاعية لحماية الشبكات العسكرية الحيوية من الاختراق، دمج الأنظمة الرقمية في القيادة والسيطرة، والربط بين الأقمار الصناعية والطائرات والوحدات البرية، تعزيز التعاون الاستخباراتي الإقليمي لمواجهة التهديدات العابرة للحدود، وكذلك تعزيز المنظومة الأمنية والاستخبارية للتأكد من عدم الاختراق واعتماد المعرفة على قدر الحاجة وتوسيع دائرة الشك.
قدم الصراع الإيراني-الإسرائيلي نموذجًا واقعيًا لحرب معقدة متعددة الأبعاد، تشمل الردع الدقيق، المسيّرات، الهجمات الجوية، القدرات الصاروخية، والاختراق الأمني والسيبراني. الجيوش العربية بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة أولوياتها بما يضمن التكيف مع طبيعة الحروب الحديثة لمواجهة التحديات والتهديدات المستقبلية مع التركيز على الحصول على طائرات مقاتلة من الجيل الخامس، الدفاعات الجوية المتكاملة، الحصول على الصواريخ البالستية والفرط صوتية، مسيرات هجومية وانتحارية متطورة ذات قدرات قتالية تعرضية، أنظمة كشف ومجابهة المسيّرات، تطوير الضربات الدقيقة، تحصين الجبهة الداخلية وبناء قدرات سيبرانية متقدمة وتوظيف الذكاء الاصطناعي في المنظومات.
ان الردع في العصر الحديث لا يُبنى على الكم فقط، بل على الكيف، النوع، المرونة، والتكامل بين مختلف أدوات القوة الصلبة والناعمة، حتى تكون الدول العربية قادرة على امتلاك الردع الإستراتيجي والعسكري ضمن سياساتهم الدفاعية، عليهم السعي للتقييم الدقيق للتهديدات والقدرات والنوايا لضمان امنهم واستقرار دولهم، ومن يفشل في قراءة مشهد المعركة القادم، قد يجد نفسه خارج المعادلة الأمنية في وقت حرج.
Brigadier General Mohammed Al-Smadi (Retd.) 12/06/2025
Jamil Fahmani 12/06/2025
Jamil Fahmani 12/06/2025